لديّ حلم
لديّ حلم “I have a dream” | بقلم يهودية صاحبة امتيازات ما بعد صهيونية
نصّ شخصي-سياسي عن مسيرة استفاقة | عدي مور
عندما كنتُ طفلةً كنت مغرمةً بقراءة الكتب. بدأت بـ “كوفيكو”، الكتاب الأول الذي أجبرتني جدتي على قراءته كي أتعلم العبرية، ثم وككل قارئ إسرائيلي عادي جاءت كتب دفورا عومر، قرأتها كلّها، عن مانيا شوحط وسارة بطلة منظمة “نيلي”.
كنت أتخيّل نفسي، راكبةً على حصان بلا سرج، شعر متطاير في الهواء ونظرة ملؤها الوقاحة، ممزقة بين الحب والأيديولوجيا، تلك التي لا تخاف المخاطر، ولا تجفيف المستنقع، أضحي بقلبي الموجوع على مذبح إقامة مجتمع جديد، ومن أجل سيرة ذاتية، بغلاف مقوّى، عنّي، تكتبها دفورا عومر نفسها، وتعجب به بناتُ جيلي.
بعد ثلاثين عامًا ونيّف، بدلاً من أن أضحي بنفسي على مذبح الييشوف اليهودي أضحي بنفسي على مذبح التربية، أقف أمام الصف وأسأل – إذا أمركم قائدكم برمي الرصاص، دون أن تفهموا السبب، هل تطلقون النار؟ “طبعًا نطلق النار معلمتي!”، يقول معظمهم بثقة تامّة، “إنهم إرهابيون”. “وإذا لم تعرفوا إذا ما كنوا إرهابيين؟”، صعّبتُها عليهم. “ماذا يعني هذا؟”، يستصعبون الفهم “إذا قال القائد أطلقوا النار فهو يعلم، هذا ما يقول لنا القائد فعله، نفعل.. وإذا كان هناك خطأ فهو المخطئ”.
يمكنني رسم خط واضح بين أحلامي كقارئة نهمة لدفورا عومر وبين نظراتهم المبجّلة حين يتحدثون عن القائد في الجيش. ليس كلّهم طبعًا. فأنا أسعى عمومًا لعدم التعميم. لكن أكثريتهم.
ولا تسيئوا الظنّ في أنّي لا أعتقد أنّ هناك تدهورَا. فبعد أن أطلق باروخ غولدشطاين وابلاً من الرصاص كان هناك ولد في صفي، قال “يستحقون”، فامتقع وجه معلمتي لمسمع هذه الكلمات ثم احمرّ وأطلقت: “لا مكان لهذا الكلام. أخرج من الصف!”. ولكنها كانت فترة تخلّل فيها كل نشاط مدرسي أشغال قصّ وتلوين حمامة مع غضن زيتون. كرهتُ ذلك. لا أجيد البقاء داخل الخطوط. على أية حال، اليوم بالمقابل، اقترحوا عليّ في أحد الصفوف التي أعلّمها، ارتكاب مجزرة، يشمل النساء والأطفال. اهتممت بأن أفحص مَن في المهداف، علّني أحذّر أصدقائي هنا. لفقدان الخجل معنى ولكن هذه ليست القضية الآن.
نعود إلى ذلك الخط الخيالي، من النوع الذي يمكنني رسمه، كل ما يُبجَّل وما يضعون في رقبته جرس البقرة المقدسة هو خطير، ومن يهزّ رأسه مصدومًا من هذه الأقوال القاسية لطلابي الأحباء ويبتسم حين يسمع عن حلمي الرائع فوق الحصان فهو لا يفقه شيئًا؛ فذلك الحلم، المقدّس، هو البقرة التي ولدت العجل الذي نربيه الآن. ما أسعى إليه هو: أنّه لا يمكنك الإيمان بالمساواة التامة وأن تكون صهيونيًا، لا الصهيونية عديمة الخجل التي في الموضة الآن ولا صهيونية الماضي أيضًا. آن أوان الاستفاقة، وكأي تل أبيبية سابقة قضت جلّ عمرها في ظلمة حانات الحارات، أعرف أنّ الاستفاقة هي سيرورة مؤلمة. ولكنها أيضًا واجب كل “صاحب امتياز” يملك القوّة.
وسأوسّع، بعد سماحكم، حول سيرورة استفاقتي، وربما لأنني من مواليد برج الحوت أو ربما لمجرّد ارتياحي أكثر في عالم الخيال منه في الواقع، سأقوم بهذا من خلال تحليل عميق لأحلام يقظتي.
لم تصمد فترة أحلامي الطلائعية طويلاً. فمن حسن حظي أنني كبرت في عائلة لا تنظر بتاتًا إلى العالم بتقسيم إلى خير وشر. ما الذي يمكن توقّعه من عائلة كانت تجيب على سؤال بريء لطفلة، هل الله موجود؟ بـ “إذا كان الله موجودًا، فهل يمكنه خلق حجر لا يمكنه حمله؟”. وطبعًا السؤال القاضي: “أين كان الله في الكارثة؟”. لا، فحيث توجد علامات سؤال – لا حياة للأساطير السطحية. لا أسطورة فتاة تركب الحصان ولا أسطورة الضابط العليم بكل شيء. لأن المسافة بين سؤال أين كان الله في الكارثة؟ وسؤال، لو كنتُ ألمانيةً في فترة الكارثة، هل كنت سأكون نازية؟ هي مسافة قصيرة، هكذا بدا لي على الأقل في مخي المذعور. وإذا لم يكن الأمر واضحًا، فأنا جيل ثالث (للكارثة) كلاسيكي.
على أية حال، فهذا السؤال، هذا التفكير المرعب، بأنني لربما كان يمكن ان أكون نازية، كان أول حجر يُلقى في البئر ويحرّك أمواج شكوكي، هو جذور شجرتي السياسية.
والآن، حين ترسلين حمامة مقصوصة من الكرتون مع غضن زيتون فعليك أن تسألي نفسك، لمن ترسلينها؟ وبهذا تتسع صورتي وأنا أحارب فوق الحصان، ويظهر فيها الناس الذين أحاربهم. ولكن لا تقسيم واضح بين الخير والشر، إذًا فهذا يقول أنّني خيِّرة قليلاً وشرّيرة قليلاً، وهم كذلك. وأنا لا أريد أن أحارب أناسًا ليسوا “الأشرار”، فهذا لا يتصوّر جيدًا، اسألوا أي كاتب سيناريو أمريكي.
وهكذا غرب حلمي الطلائعي في أعباب الذاكرة، وأفاق مكانه حلم يقظة جديد.
حلم روبين هود – مناضلة العدالة من أجل المستضعفين.
استمر حلم روبين هود سنينًا عدّة، وتبدّلت أشكاله كلما كبرت. ولكن الأساس ظل نفسه: أنا، القوية، أحارب من أجل الآخرين، من أجل من لا صوت له. كثيرًا ما تردّدت مفردة الاحتلال في بيتنا ككلمة مرادفة للظلم الكبير. وكنت أدرك من سن صغيرة أن طرفنا يقوم بأشياء سيئة جدًا.
في فترة العمليات كنت على يقين من أنني سأموت، وكتبت في يومياتي وصية تضمنت أمرًا واضحًا بأنني لا أريد أن يُنتقم باسمي. كنت أتخيّل كيف ستتم تغطية جنازتي وسيقولون كم كنت طفلة سلام، طيّبة القلب. وسيجهش ليران، الولد الذي كنت أحبه، بالبكاء على روح كبيرة كروحي تُخطف قبل موعدها. فهكذا تكون أحلام روبين هود، تدور حولك بالأساس.
في الجيش رفضتُ أن آخذ السلاح معي إلى البيت، ولم يزعج هذا أحدًا لأنني في تمرينات الرماية كنت أجهش بالبكاء وأصوّب الرصاص نحو الأرجل. وكجندية في سلاح التعليم أعلنتُ بفخر عدم استعدادي للخدمة في وحدات قتالية، دون أن يُحدِث هذا مشكلة لأنّ معظم زميلاتي في الدورة أردن الخدمة في وحدات قتالية. وأُصبت بخيبة أمل بسبب تجاوبهم السهل مع كل الشروط التي وضعتها، لأنني كنت احلم بنضال إيديولوجي، يصنّفني كناشطة مناضلة. ولكنّي تنفسّت الصعداء بالمقابل، لأنني في الأساس إنسان مطواع، ولا أحب إثارة المشاكل. في كل مرة كنت ألتقي فيها عربًا، في الصيدلية أو عمّال العتالة حين كنت أنتقل من شقة إلى أخرى، كنت أرسم ابتسامة مبالغ فيها، وأتصرّف بأدب مبالغ فيه كي يفكروا عني أمورًا طيّبة ويقولون في سرّهم، ما أحسنها!
استغرق غروب حلم روبين هود بعض الوقت، لأنّه من الصعب تصديع هذا النوع من الشعور بالفوقية. وأراه حولي طيلة الوقت، الآن حين أصبحت حسّاسة لوجوده بهذا القدر، فهو شعور مريح للغاية ومغلوط للغاية.
كان هناك العديد من الناس واللقاءات والكتب والمقالات التي جعلتني أتململ من أحلام يقظتي. سأحاول حصرها في أمرين، الأول متعلق بالعقل والثاني متعلق بالقلب.
بعد الجيش سافرتُ في أعقاب قصة حب لأسكن في جنوب أفريقيا، أقمت هناك سنتين. لم يصمد الحب ولكن أفريقيا وقصّة هذه القارة ما زالت تدوّي فيّ منذ سنين. هناك فهمت ماهية الاستعمار، شعرت بالجرح العميق، وهناك شعرت أيضًا بكوني “بيضاء” أكثر من أي وقتٍ قبلها. حين كنت أتنزّه كان الأطفال يركضون خلفي ويهتفون “ميزونجو”، امرأة بيضاء، فكنت أتحرّك غير مرتاحة أمام مسرحيتهم كي أعطيهم المال أو الحلويات، كما تعوّدوا أن يفعلوا أمام السيّاح البيض السائحين. لم يكن دور روبين هود سيئًا بالنسبة لي. كانت عائلة صديقي نشيطة في مقاومة الأبارتهايد، مما جعلني أخجل بعدم نشاطي. وكانوا يبجّلون مانديلا، فقرأت سيرته الذاتية ثم قرأت كتبًا كثيرة عن أفريقيا، خلال التجوال بين محادثات مع متطوعين ثرثارين، لم يقرأوا كتابًا واحدًا ويعملون ضمن قالب سطحي مفاده أن الأسود يعني الضعيف والمحتاج. اتسّعت دائرةُ رؤاي، فإذا كان الأمر هكذا هنا، فكيف هو في بيتي؟
ثم كانت عهد تميمي. اخترقت قصّتها قلبي مباشرةً. أول ما ظهر فجأة كان وجه، بعيد عن كل ما رأيته في الصحف والأخبار. إنه لمحزن كم ينبني وعينا من الصور ويتحطم قلبنا، ليس شفقةً، بل تضامنًا، أمام ما يشبهنا وما نألفه. ولكن قصتها حطّمتني أولاً لأنها أدت لتصدّع تصوّري لذاتي كمن يمكنها التحدّث باسم الآخرين، فعهد تميمي تجيد إسماع صوتها بقوة ووضوح، وهي حتمًا لا تحتاجني لأتحدث باسمها. شعرت بخجلٍ كبير، فقد كشف هذا عنصريّتي الخبيئة، شعوري بالفوقية. ونمّى إدراكي بأن ما عليّ أن أكونه هو شريكة في النضال، وليس روبين هود! كيف كنت أفكر هكذا؟ وأصلاً فالبنطال الضيق لا يلائمني.
حقيقة أنها كُنّيت “إرهابية” كانت تؤرقني. فكيف يمكن في دولة مثل دولتنا أن نسمّي فتاةً تقف أمام جندي مسلّح في ساحة بيتها، إرهابية؟ واضطرني هذا لأسال السؤال الذي يطرح نفسه، والذي لم أسأله قط، من يقرّر من هو الإرهابي؟ وتذكّرت بأنّ مانديلا كان يسمّى هكذا أيضًا. ولكن أكثر ما أثاره الأمر عندي كان التفكير في الأولاد والفتية الفلسطينيين، ومن هناك سرعان ما اكتشفت سجن الأطفال.
وحين تعاني من متلازمة فوقية يمكنك الاعتراف بنظام الاحتلال، فهذا فظيع للغاية ولكن – دائمًا هناك “لكن” ما في الفوقية – ولكن لدينا، نحن اليهود، جينٌ ما خاص، يحافظ علينا من أن نكون متوحشين كما في الأنظمة الظلامية حقًا. فجنودنا لن يغتصبوا، ولن يقتلوا أحدًا سدى، هذا غير ممكن. غير أنّ سجن الأطفال لا يتوافق مع هذا الجين الزائف. فالاحتلال ليس مصطلحًا بعيدًا وعامًا فحسب، بل مركبًا من آلاف المظالم، أعرف عنها غيضًا من فيض. والسؤال هو: هل أملك من الشجاعة للبحث في العمق؟
الإجابة هي نعم، وهنا تتسارع عملية الاستفاقة، وتؤدي إلى صداع واشمئزاز ومشاكل في الهوية، ولكن هذا لا يقاس باستمرار العيش في الظلام. ولئلا يبدو أنني أتضجّر، فأنا أتأمل في هذا كلّه في حياتي المريحة للغاية.
اليوم أصبحت أحلام روبين هود بعيدة عني، ولدي حلم يقظة جديد. دولة فيها الجميع سواسية، وليس سواسية فقط بل يعيشون سويًا. فقد سألني ذات مرة رجل أمريكي كبير في السن من تكساس، بعد محادثة سياسية: “إذا فأنتم تعيشون كما في حالة الفصل؟”. شعرت بأنني تلقيتُ لكمة في بطني. كم يكون القوي أعمى. وعمومًا، كل الأحلام الطلائعية وأحلام روبين هود لا يمكن أن تتحقق إذا كنا نعيش معًا.
هل تخيفني فكرة الدولة الواحدة؟ سأجيب بكل صراحة بنعم، فهناك دائمًا خوف من المجهول، ولكن كل الإمكانيات الأخرى أكثر سوءًا. وربما لأنني لا اعلم اين كان الله في الكارثة، ولأنني ملحدة أصلاً، ولكني في هذه الجزئية أدرك، بعض الشيء، علاقة الإنسان المؤمن بالله، فكل ما نحتاجه أحيانًا هو الإيمان.
إذا أصبح لديّ حلم يقظة جديدة، بلدة جماهيرية للعرب واليهود، مع حيّز وطبيعة. أنا بجزمة مطاطية، أحلب البقرة وأجمع البيض من الحاكورة، نحن خضر طبعًا، ويتراكض أولادي مع الجيران ويتحدثون خليطًا من العبرية والعربية.