حوار في ظل الحرب – تحليل
تحليل لقاءات حواريّة بين يهود/يهوديات وفلسطينيّين/فلسطينيّات في مدرسة السلام خلال فترة الحرب
أكتوبر-ديسمبر 2023
أقيمت مدرسة السلام في نهاية السبعينات، وواجهت منذ ذلك الحين أزمات وفترات عصيبة جدًا، من بينها، أحداث أكتوبر 2000 ومايو 2021. شهدنا في السنوات الماضية صعود حكومة اليمين المتطرّف، تقصير الدولة فيما يخصّ الأمان الشخصيّ والجريمة لدى المواطنين/ات الفلسطينيين/ات في إسرائيل، تعميق الاحتلال ونهب الأراضي في الضفة الغربيّة، استمرار الحصار على غزة والانقلاب على نظام الحكم الذي أدّى إلى شرذمة المجتمع الإسرائيليّ. في هذا الواقع المضطرب، شكّلت مدرسة السلام بالنسبة للكثير من الناس إطارًا سياسيًّا بديلًا مستقرًا، متكافئًا وعادِلا. ضمّت هذه المجموعة طاقم موجّهينا/موجّهاتنا، المشاركين/ات في المجموعات، مجتمع خرّيجينا/خرّيجتنا، سكان قرية واحدة السلام وطواقم ثنائيّة القوميّة في مختلف أنحاء البلاد. التزامنا الدائم بالقيم المتساوية والخطاب السياسيّ الراديكاليّ الذي يتيح حيّزًا حرًا للجميع/ة للمناقشة، المعالجة والنشاطية، ساهم في بناء ثقة بيننا وبين أفراد مختلفين ومنظّمات مختلفة.
في السابع من أكتوبر، اندلعت حرب في أعقاب الهجمة العنيفة التي شنّتها حماس على بلدات غلاف غزة، ورد الفعل المميت وعملية التهجير التي تقودها إسرائيل في غزة. مشاعر الصدمة، اليأس والعجز تعترينا جميعًا. وفي ظل الحرب، ترتكب أيضًا جرائم إضافيّة ومتزايدة تجاه الفلسـطينيين في الضفة الغربيّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الفلسـطينيين مواطني الدولة، واليهود/اليهوديات الذين يقترحون بديلًا سلميًّا، يتعرّضون للملاحقة ومساعي الإخراس بشكل غير مسبوق. وسـط هذه الصعوبات، المخاوف، مساعي الإخراس والتعقيدات، توجّهت إلينا نحو 12 منظّمة، مؤسّسة تعليميّة ومشفى، لتلقي الاستشارة والمساعدة لطواقمهم المختلطة (فلسطينيين/ات ويهود/يهوديات) في تخطّي الفترة الصعبة، والحد من التوتر السائد بين أفراد الطاقم. بالإضافة إلى ذلك، أجرينا لقاءات حوار ومعالجة لطاقم موجّهي مدرسة السلام ولـ 5 منتديات لخرّيجي مدرسة السلام، وافتتحنا أو تابعنا كالمعتاد المساقات التي كانت ستفتتح أو أنّها بدأت قبل الحرب (قادة/قائدات التغيير في المدن المختلطة، قادة/قائدات التغيير في مجال العدالة البيئيّة ودوائر حواريّة بين إسرائيليّين وفلسطينيّين مقيمين في أوروبا). منذ أكتوبر وحتى ديسمبر 2023، أجرينا لقاءات شارك فيها نحو 800 مشارِك ومشارِكة.
لا شك في أنّ إدارة حوار بين مجموعتين قوميتين تربطهما علاقة مستعمِر ومستعمَر تشكّل تحديًا وتطرح أسئلة سياسيّة عديدة، بما في ذلك، السؤال حول ما إذا كان الحوار بحدّ ذاته ينطوي على تطبيع لهذا الواقع غير المتكافئ؛ أيّ أنّ الموافقة والرغبة في إقامة حوار ثنائيّ القوميّة تمنح الشعور بأنّ الواقع غير المتكافئ هو أمر طـبيعيّ بالإمكان التعامل معه. خلال فترة الحرب، تصبح علاقات القوة أكثر تطرفًا، والأسئلة السياسيّة تـطرح بوتيرة أعلى من المعتاد، في أعقاب القمع الذي أصبح واضحًا للعيان، حتى في الحلقات الحواريّة، وهو يؤثّر على إمكانية إجراء حوار آمن وقائم على احترام الجميع. خلقت هذه التجربة معضلة سياسيّة لدى موجّهي/موجّهات مدرسة السلام، والتي تطرّقت إليها بوضوح إحدى الموجّهات اليهوديّات ″كيف يمكننا إدارة حوار حقيقيّ… إذا كان الحوار الحاليّ غير متوازن إطلاقًا… نحن ندعو الفلسطينيّين/ات للقاءات لأنّ المنظّمة التي يعملن فيها طلبت منهن المشاركة… ولكنّهم أخرسوهن وضمّوهن للحوار… من العبث أن نُضع الناس في موقف كهذا، ونحن نتعامل مع الأمر كما لو كان طبيعيًّا″. مشاعر القمع والترهيب لا تؤثّر على المشاركين/المشاركات في المجموعات فحسب، إنّما أيضًا على الموجّهين/ات. تقول إحدى الموجّهات الفلسطينيّات: ″وجّهت مجموعة مختلطة تناولت موضوع الخدمات التربويّة… في بادئ الأمر، خشيت التدخّل ومشاركة المشاركين/ات اليهود بالقمع الذي يمارسونه تجاه السكان الفلسطينيّين. شعرت بأنّني لم أوفّر الحماية للمشاركات الفلسطينيّات في المجموعة، وغادرت المجموعة مع شعور بالاختناق والعجز″. على الرغم من المعضلات والتحديات التي ذكرت، واصلنا اللقاءات الحواريّة إلى جانب عمليّة التعلّم ومنح الموجّهين/ات متّسعًا أكبر من حرية العمل خلال توجيه اللقاءات.
ما الفائدة إذًا؟ ما أهمية الحوار خلال أزمة كهذه؟
“حيّز آمن” كانت تلك الإجابة الأولى التي تلقيناها من جميع الموجّهين/ات والمشاركين/ات. الشعور بالأمان هو شعور أساسيّ لجميع بني البشر، وفي الأزمات، عند تضعضع الأمن والأمان، يلجأ الناس إلى آليات صراع البقاء للحفاظ على أنفسهم. إنّ إعادة تعميق الشعور بالأمان قد تدفع الناس للخروج من حالة صراع البقاء والتصرّف بشكل متّزن ، رؤوف ومراع للآخر. يتّضح من تحليل اللقاءات الحواريّة أنّ الحيّز الآمن لا يمكن أن يتوفّر إلّا بحضور ″الآخر″، لأنّ المشكلة التي تسبّبت من البداية بانعدام الأمان المستمر هي العلاقات الصادمة مع ″الآخر″. وإذا استندنا إلى نظريّات التحليل النفسي، بالإمكان استخدام مصـطلح وينيكات ″الفضاء المحتمل″ (وينيكات، 2004). في إطار الفضاء المحتمل، السؤال حول ما يأتي من الخارج وما يأتي من الداخل يجمّد، ويتلامس الخارجيّ والداخليّ بحركة راقصة تمكّن الإنسان من أن يكتشف شيئًا جديدًا وأن يفاجأ بنفسه أيضًا (Jemstedt, 2000). هذا الحيز النفسيّ، الواقع في منتصف الطريق بين الواقع الموضوعيّ والتجربة الشخصيّة، هو القاعدة الأساسيّة للإبداع وللقدرة على توسيع نطاق التجربة اليوميّة الحسيّة (وينيكات، 2004).
يدخل المشاركون/المشاركات إلى الفضاء/الحيّز المحتمل مع تخيّلات أوليّة لتلبية احتياجاتهم/ن الشخصيّة من قبل الآخر. في معظم الحالات، طالبت المجموعة اليهوديّة المجموعة الفلسطينيّة بإدانة كاملة لما ارتكبته حماس، كما قالت إحدى الموجّهات: “ما يردنه هو سماع الطرف الآخر… سمعن إدانة للعملية التي ارتكبتها حماس من %80 من الطاقم، وأردن سماع الـ %20 الآخرين… ما يشغلهن هو الـ %20 الذين لم يدينوا”. نفهم من ذلك أنّ المجموعة اليهوديّة طالبت بهذه الإدانة لاسترجاع الشعور بالسيطرة الذي سلبَ منهم مع اندلاع الحرب. المطالبة بالإدانة هي ممارسة طقوسيّة تمثّل فنتازيا السيطرة على الفلسطينيين وما يقولون، مع أنّ تحقيق هذه الفنتازيا، أيّ سماع الإدانة من المجموعة الفلسطينيّة، يؤدّي إلى التخفيف من حدة القلق لفترة قصيرة فقط، ولا يستمر لفترة طويلة. من ناحية أخرى، تشبّثت المجموعة الفلسطينيّة بفنتازيا المساواة في علاقات القوة داخل المجموعة وإنشاء حيّز آمن بمسؤولية ″الآخر″. تقول مشاركة فلسطينيّة في المجموعة ″أتيت للمواجهة″، وتقصد بذلك “وضع الحقيقة على الطاولة ومناقشة الموضوع، ليس محاولة بناء شراكة إنّما التحدّث عن الموضوع، وقد أدّى ذلك بسائر المشاركين للمطالبة بالتحدّث من مكان حقيقيّ وآمن″.
على الرغم من الرغبة المشتركة للطرفين بخلق حيز آمن للجميع، اعترى المجموعتان شعور بالاختناق، كما تقول موجّهة يهوديّة: ″بقينا مع الشعور بالاختناق، ويبدو أنّ هذه فنتازيا غير قابلة للتحقيق…. اليهوديات يشعرن أيضًا بالاختناق… لا يشاركن لأنّهن لا يردن جرح مشاعر الآخرين… الفنتازيا على المستويين هي سماع الآخر وإيجاد آذان صاغية أيضًا”. إنّ تميّز الفضاء/الحيّز المحتمل خلال هذه الأزمة يكمن في إتاحة المجال لخوض تجارب شخصيّة وجماعيّة ناتجة عن التقاء العالم الداخليّ والشخصيّ لكل مجموعة بالعالم الموضوعيّ. في أعقاب الانكشاف على مختلف المشاعر والأفكار، يمر المشاركون/ات بسيرورة معالجة تساهم من ناحية في ترتيب جزء من الأفكار، ومن ناحية أخرى، تطرح أسئلة وأفكارًا جديدة. وعند انهيار الواقع الخارجيّ، وعندما يخيّل لنا أنّه لا يوجد حيز قادر على احتواء الشكوك والنقد، تزداد أهمية ″الفضاء/الحيّز المحتمل″ الذي ينشأ في مجموعاتنا الحواريّة، حيّز آمن ويتيح المجال للتعقيد والإبداع. هذا الحيّز نجح في احتضان واحتواء أشخاص اختاروا التشكيك، المخاطرة، البحث والكشف، الأمر الذي ساهم في استعادة الشعور بالفاعليّة المبادِرة الذاتيّة والمهنيّة.
أهمية الحوار أحاديّ القوميّة في حيّز ثنائيّ القوميّة أثناء الأزمات
في الحيّز ثنائيّ القوميّة، تقام أيضًا لقاءات أحاديّة القوميّة، والتي ازداد الطلب عليها خلال هذه الفترة العصيبة. الحوار الفلسطينيّ أحاديّ القوميّة كان حيّزا للاتّحاد وتشارك الحزن والألم، كما أشار أحد الموجّهين الفلسطينيين: “الحوار الفلسطينيّ أحاديّ القوميّة شكّل حيّزًا للبكاء وتقاسم الحزن، لأنّه لا يجوز لهم التعبير عن هذا الحزن في أماكن أخرى، والشعور السائد هو أنّ هذه المجموعة فقـط ستفهم مشاعرهم″. الحزن الفلسطينيّ بات محظورًا في الحيز الخارجيّ، وملاحَق من قبل قوات الأمن والمواطنين في إسرائيل. مسًّ ذلك بالاحتياج الأساسيّ والشخصيّ لمعايشة مشاعر الحزن والغضب، وأدى إلى الملاحقة المستمرة والقامعة والتي أدت، من ضمن جملة الأمور، إلى الفصل بين المشاعر والأحاسيس الجسديّة. قالت إحدى المشاركات الفلسطينيات إنّها “تشعر بأنّه لا يحق لها أيضًا التواجد في الحيز العام في العالم، بأنّ هويتها غير قيّمة وأنّه لا معنى لوجودها، وبأنّه يحظر عليها أن تشعر بالعجز، الإحباط، الحزن واليأس الداخليّ العميق”.
الحوار اليهوديّ أحاديّ القوميّة شكّل حيّزًا للتعمّق في السؤال: كيف نريد رؤية التغيير، وما مدى التزامنا بالتغيير كمجموعة يهوديّة، وما هي التوقّعات من المجموعة الفلسطينيّة ومن الواقع. على سبيل المثال، تقول إحدى الموجّهات اليهوديّات: ″في الحوار اليهوديّ أحاديّ القوميّة، يمكنهم التحدّث عن القمع الذي تمارسه إسرائيل وعن مسؤوليتهم عن هذا القمع”. بالإضافة إلى ذلك، شكّل الحيّز اليهوديّ أحاديّ القوميّة إطارًا للاستيضاح والاعتراف بالألم الإسرائيليّ، بمعزل عن الاستملاك السياسيّ: “المحادثات في لقاءاتنا جعلتني أتماهى مع الألم الإسرائيليّ… لم أتماهَ سابقًا، لأنّني أعلم كيف يستملكونه سياسيًا في حرب أعترض عليها. وفي المحادثات الجماعيّة تحديدًا.. نجحت في التماهي لأنّ الأمر لم يستخدم سياسيًّا″. من الواضح أنّ الحضور في فضاء/حيّز محتمل منح المشاركين/ات اليهود الشرعيّة للتواصل الحقيقيّ مع الألم الإسرائيليّ. إمكانية البقاء في حيّز يتيح للجميع المجال لخوض تجربة إزالة الأقنعة، مكّنت المجموعتين من الانكشاف على حقيقة الألم.
إنّ المعضلات المترتّبة على إقامة لقاءات حواريّة في هذه الفترة الصعبة ما زالت ترافقنا حتى الآن، هل نجحنا؟ هل أحدثنا تغييرًا؟ هل لإقامة الحوار في حالة غضب أهمية وأثر؟ هذه أسئلة جوهريّة علينا أن نطرحها دومًا في العمل التربويّ-العلاجيّ، والإجابة عن هذه الاسئلة هي أمر إيجابيّ من وجهة نظرنا. في ظلّ صراع البقاء الحاليّ والموت المحيط بنا، نجحنا في إنشاء حيّز مليء بالحيويّة، اللعب والتجارب. نجحنا في استعادة الشعور بالفاعليّة المبادِرة لدى جزء من المشاركين/ات، ودعمنا سيرورات بحث شخصيّة وجماعيّة.
نرى أنّ مدرسة السلام مسؤولة عن الحفاظ على بقايا العلاقات بين اليهود/اليهوديّات والفلسطينيّين/الفلسطينيّات، والحفاظ على الأمل بتحسينها، والتعلّم المستمر كيف يمكننا تحقيق ذلك على نحو أفضل.
—
וויניקוט, ד. ו. (2004). משחק ומציאות. תל-אביב: עם עובד.
Potential space: The place of encounter between inner and outer reality. Jemstedt, Arne. International Forum of Psychoanalysis, Vol 9(1-2), Apr 2000, 124-131.